آخر الأخبار

الأربعاء، 19 فبراير 2020

الرحى آلة أصبحت في خبر كان

الرحى آلة أصبحت في خبر كان
الأربعاء، 19 فبراير 2020

الرحى آلة أصبحت في خبر كان

 ماهيتها ،مكانتها ،و علاقتها بالمرأة الزوية

     
 تعتبر الرحى من الأدوات التي كانت تستعملها المرأة الزاوية خاصة و المرأة البدوية عامة ، فهي آلة بدائية من الحجر الخشن الثقيل، تُستعمل لجرش الحبوب وطحنها، وهي عبارة عن حجرين مستديرين يُركبُ أحدهما فوق الآخر، ويكون السفليّ منهما ثابتاً، بينما يتحرّك الحجر العلويّ حول محور خشبيّ أو معدنيّ تكون قاعدته مثبّتة في أسفل الحجر السفليّ، وعندما تدور حجر الرحى فإنها تمر فوق حبات القمح أو الشعير التي توضع من فتحة دائرية صغيرة في وسط الحجر العلوي، فتتكسر تلك الحبات شيئاً فشيئاً، كلما دار عليها حجر الرَّحَى حتى تصبح دقيقاً ناعماً.


ليست كل عائلة لديها رحَى، فقد كانت النساء يستعرنَ الرَّحَى من بعضهن البعض ثم يرجعنها بعد الفروغ منها، ونظراً لثقل الرَّحَى وصعوبة حملها على الرأس فقد كانت المرأة تعمل لنفسها «حَوِيّة» وتضعها على رأسها، ومن ثم تحمل الرَّحَى فوقها، و»الحوية» عبارة عن قطعة من القماش تطوى وتلف على شكلٍ لولبيّ ومستدير وتوضع فوق الرأس، ثم توضع الرَّحَى فوقها على رأس المرأة، وبذلك يمنع احتكاك حجر الرحى بجلدة الرأس، ويحول دون إصابة رأس المرأة بالأذى. ولا يقتصر استعمال الحوية على حمل الرَّحَى وحسب، بل تستعمل أيضاً عند حمل جرار الماء من البئر، أو حمل «حزمات» الحطب أو غيرها من الأشياء الثقيلة.

تتكوّن الرحى من عدة أجزاء هي حجرا الرحى، وهما عبارة عن حجرين مستديرين بقطر حوالي 50 سم، يكون السفليّ منهما ثابتاً غير متحرك، وفيه ثقب ضيّق واحد في وسطه، يسمح بمرور محور خشبيّ أو معدنيّ يُثبّت في وسطه، ويسمى قُطْب الرحى، أما العلوي فهو الجزء المتحرك، والذي يؤدي دورانه إلى طحن الحبوب وجرشها، وبه ثقب كبير نسبياً في وسطه يسمح بدخول الحبوب، وثقب صغير آخر في طرفه يوضع فيه المقبض الخشبي الذي نحرك به حجر الرَّحَى، أما الفراشة فهي قطعة خشبية مستطيلة كفراشة المغزل، بها ثقب في وسطها تستعمل لمسك المحور الخشبي أو الحديدي وتثبيته حتى لا يتزحزح، وتُثبّت الفراشة في فتحة الحجر العلويّ من الرَّحَى. والهادي هو خشبة على شكل عصا صغيرة تُحدَّد وتُدخل وتُثبّت في الثقب الجانبي لتكون المقبض الذي نُدير به حجر الرحى العلويّ، وأحياناً تُلّف عليها قطعة من القماش حتى لا تؤذي اليد، يبقى القُطب، وهو المحور الخشبي أو المعدني الذي تدور حوله الرَّحَى، واللُّـهوة أي الحفنة الصغيرة من الحبوب التي توضع في داخل ثقب الرحى لطحنها وتسمّى «لُهْوة حَبّ». يقال: لهوة كبيرة أو صغيرة، واللهوة أقل من الحفنة، فملء اليد بالحبوب يسمى حفنة، أما اللهوة فهي نصف الحفنة تقريباً، بينما يتكون «الثفال» من قطعة منسوجة من صوف الغنم وشعر الماعز، تُبْسط تحت الرحى ليسقط عليها الدقيق والحَبّ المجروش، ويمكن التحكم بدرجة نعومة الحبوب بما يناسب الأكلة الشعبية التي تصنع منها كالزميتة أو المردود ....

عرفت في تراثنا منذ فترة قديمة جداً، تعتبر من ضمن الأدوات المهمة لدى قبيلة الزوى، وهي أداة يومية الاستعمال، وليست موسمية كما يتبادر لأذهان البعض، في الماضي كانت تتواجد في كل بيت، ولم تكن جداتنا وأمهاتنا يستطعن الاستغناء عنها، لكن مع التطور والحداثة لم يبق منها سوى ما ندر في بعض الخيام التي لا زالت مستقرة بالبادية...
في غالب الاحيان تتكلف امرأة واحدة بتحريك الرحى الصغيرة
إلا  إنها لا تستطيع تحريك الرحى الكبيرة «التارشة» بمفردها، نظراً لثقلها. ولكن عادة ما تتعاون عليها امرأتان في طحن الحبوب، و نظراً لجلوس المرأة فترة طويلة مع هذه الأداة قد توطدت علاقة قوية بين المرأة والرحى، تحكي لها ما بها من أحاسيس وشجون...


العلاقة الوثيقة بين المرأة والرحى اكتسبت أبعادا نفسية واجتماعية ووجدانية مختلفة وتمخض عنها زخم غنائي وشعري مثّل أحد وجوه الإبداع في المجتمعات التقليدية بصفة عامة و في قبيلة الزوى بصفة خاصة وبطرق وصف مختلفة تذكرها الأغاني الحديثة اليوم عندما تتحدث عن المجتمعات التقليدية وتسترجع صورا من الماضي والتراث.
وهذه العلاقة التي تجاوزت فيها الرحى مجرد الأداة المنزلية إلى صديقة للمرأة ومتنفس لها ممّا تلقاه من ضغوط في حياتها اليومية في مجتمعات ذكورية لا تمنحها حق التعبير عن ذاتها وعن مشاعرها، تقف وراء ولادة تراث غنائي شعبي ثري بالصور الشعرية الجميلة بصدقها وبتعبيرها التلقائي عن ضعف حال مستعملتها.
الرحى.. رفيقة قديمة للمرأة الزاوية ومخزن الأهازيج الشعبية
في قطب الرحى تدور حكايات الماضي التي وثقت إبداعات النساء وغيابها عن الاستعمال اليومي لم يمحها من الذاكرة الشعبية.
توقفت حجرات الرحى عن الدوران في خيام القبيلة بتوفر آلات الرحي العصرية التي توفر في وقت قياسي ووجيز أكبر كميات من أنواع الحبوب. حيث أن نمط الحياة العصرية جعل الرحى اليدوية من الأدوات التراثية التي ارتبطت بالذاكرة وبالأغاني والأهازيج والأشعار الشعبية التي كانت المرأة ترددها أثناء استخدامها للرحى.

انسحبت الرحى من الحياة اليومية ومن عادات الطبخ في أغلب المدن وأصبحت لا تحضر سوى في مناسبات إحياء التراث وفي المهرجانات التي تحيي العادات والتقاليد وتهتم بالأدوات المنزلية القديمة ليطلع جيل الصغار عمّا كانت تستعمله الجدات لرحي الحبوب. ولعل غالبية جيل الشباب والصغار تجهل صوت الرحي وطرق صنعها وكيفية استخدامها وطعم دقيقها الرطب والمرحي على مهل وبصبر، وبفعل الحداثة أصبحت الرحى اليدوية بأنواعها الأكثر قدما من بين مقتنيات المتاحف، ومن أدوات وتحف الديكور الذي يعتمد الطابع التقليدي بعد أن كانت أهم الأدوات لإعداد الطعام، حيث لا تغيب عن أغلب الأسر البدوية. ولأن المرأة هي المكلفة بشؤون البيت ومنها الطبخ، فهي أكثر من يستعمل الرحى بشكل يومي، حيث تستبق نهوض بقية أفراد الأسرة من النوم لتعد رغيف الخبز من الدقيق الذي جهزته مرددة الأغاني والأشعار التي حفظتها ذاكرتها، مما كانت تردده أمها أو جدتها أو مما ألفته بنفسها...
و نظرا لأهمية الرحى و مكانتها في المجتمع العربي البدوي ككل فإنها لقيت إهتماما كبيرا في الأدب العربي  حيث نجد البعض من ذكر الرحى في الروايات والكتب الأدبية القديمة وكذلك في كتب التاريخ وفي وصف المؤرخين للحياة اليومية في المجتمعات البدوية عبر مراحل تطورها التاريخي وصولا إلى زمن المكننة والحياة الحضرية المعاصرة التي غيّبت الرحى عن الاستعمالات في المجتمعات الحديثة.

الرحى اليدوية التقليدية تحمل تسميات عديدة باختلاف المناطق العربية ومنها “الطاحونة” و”الجاروشة” و”التارشة” (إذا كانت كبيرة الحجم) لعلها تكون آخر الأدوات الحجرية التي رافقت الإنسان في حياته لقرون حتى زمن غير بعيد. وتصنع الرحى من الحجر الخشن الثقيل أو من حجر الصوان الذي تسمح صلابته برحي الحبوب الجافة بأنواعها، وهي تُستعمل لاستخراج الدقيق الرطب وكذلك لجرش الحبوب وطحنها.

ورغم انتهاء حقبة استعمال الرحى إلا أن ارتباطها بالحياة التقليدية وعلاقة المرأة الزوية بصفة خاصة و البدوية بصفة عامة بها وما خلفته هذه العلاقة من إبداعات فنية، شعرا وغناء، جعلها من الأدوات التراثية وثيقة الارتباط بالموروث الشعبي ورمزا للأصالة ومصدرا لاستكشاف مراحل تطور ابتكارات الإنسان في صنع الأدوات التي تمكنه من تسهيل حياته وتوفير الغذاء بجهد أقل. وهي اليوم قطعة أثرية تتزيّن بها المتاحف لتوثق من خلالها مراحل تاريخية بعينها لكنها ستظل حاضرة في مخيلتنا ....

Tribu_Zwa
full-width